على طريقة مشجعي كرة القدم، يصطف كلا قطبي الصراع الفلسطيني الداخلي تلقائياً ومن دون سابق تفكير مع أية جهة، دولة، أو مؤسسة، تخاصم القطب الآخر أو تختلف معه. بتنا الآن أمام قضايا متعددة واهتمامات شتى ليست بينها قضية فلسطين، فحتى منظمة التحرير الفلسطينية، ذلك البيت المهجور، أصبحت عنواناً للخلاف بين من يرفع شعار إما إصلاحها أو استبدالها، ومن فطن أخيراً أنها الممثل الشرعي والوحيد والبيت الجامع والكيان والهوية الوطنية، عناوين نتذكر أننا آخر مرة سمعناها في دورة للمجلس الوطني في الجزائر عام ،1990 ولولا الشرط “الإسرائيلي” بشطب الميثاق الوطني لما عقد المجلس دورتيه الأخيرتين في قطاع غزة بحضور راعي دائرة التسوية المفرّغة بيل كلينتون.
غزة التي أحرقتها “إسرائيل” بالفوسفور الأبيض طيلة اثنين وعشرين يوماً، فجأة ارتفع سعرها وبات إعمارها قضية وطنية وإقليمية ودولية، حتى “إسرائيل” تزجي النصائح بشأن من يحق له الإعمار ومن لا يحق ولولا إدراكها أنها لا تملك سوى “حق” التخريب لتسابقت مع الجميع على الإعمار ولربما لدعت إلى مؤتمر في “هرتزليا” يخصص لإعمار غزة.
يبدو أن الانقسام أصبح سيد الموقف ولا فكاك منه في المدى المنظور. فالطرفان يعلنان أنهما على حق، ويتهم الواحد الآخر بالارتهان لقوى خارجية ومحاور إقليمية ودولية. كلاهما تهمّه المصلحة الوطنية العليا والثوابت، ثوابت الأمة أيضاً، ودماء الشهداء وأنّات الجرحى ودموع الثكالى وبكاء اليتامى. من المخطئ إذاً؟ لا مشكلة من دون مخطئين. المخطئ هو الوطن بجناحيه الضفة وغزة، (لاحظوا كيف اختزل الوطن بمعناه التاريخي إلى مساحة الدولة المتفاوض حولها). غزة مخطئة والضفة مخطئة، فلسطين كلها مخطئة، ماذا بعد؟ الشهداء مخطئون كذلك، ولم يعد أحد مصيباً وصادقاً وحريصاً ومخلصاً سوى هؤلاء.
يصاب المرء بالدوار وهو يفكّر في مخرج ما من هذه المشكلة، يغمض عينيه ويمسحهما للتنقيب في الأفق عن شعاع أمل فلا يجده عندما يرى أبطال المشهد، فهم معروفون، ونستطيع جميعاً أن نقرأ ما بين سطورهم. أيكفي أن أقول أنا صادق لتصدقوني؟ أيكفي أن أتقول أنا عربي لأكون عربياً؟ لا تهمّنا التصريحات وأطنان الشعارات لأنها دفنت تحت الركام في غزة كما دفنت كراريس التلاميذ وألعابهم وأحلامهم الغضة، وكما دفنت كل المزاعم الدولية الكاذبة والزائفة عن الإنسانية والإرهاب والديمقراطية.
هناك طريق واحد لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، إن لم يسلكه الفلسطينيون اليوم، سيضطرون لسلوكه غداً أو بعد غد لأنهم لن يجدوا غيره بعدما تضع “إسرائيل” الجميع في كفة واحدة، ولا تعطي أحداً إلا بقدر ما نعطي أطفالنا من فرصة للدوران في لعبة من ألعاب مدن الملاهي. هذا الطريق هو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتضم الجميع ووفقاً لانتخابات شاملة، وصياغة استراتيجية نضالية موحدة، ثم حل السلطة.