إن المتتبع لِما يدور بشكلٍ مأساوي لأحوال اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وفي مخيمات الإيواء الموجودة على الحدود العراقية – السورية، منذ فترة طويلة يصل إلى نتيجة محددة لا يختلف عليها اثنان،
هي أن ثمة مؤامرة بكل ما تعني الكلمة، تُحاك بليل، لإجلاء اللاجئين الفلسطينيين من العراق بالذات. وهذه المؤامرة تكاد تكون دولية وبرعاية عربية على وجه العموم، وفلسطينية على وجه الخصوص. وقبل الولوج إلى التفاصيل يحق لنا أن نتساءل: لماذا فلسطينيو العراق بالذات هم المقصودون ؟ إن المطلوب من فلسطينيي العراق أن يدفعوا ثمن المهاترات التي تعج بها الساحة العراقية، منذ الاحتلال الأمريطاني (الأنكلو – ساكسوني) للعراق، وسقوط نظام حكم الرئيس المأسوف على أيامه الراحل صدام حسين. فالأخير كان من الزعماء العرب القلائل الذين كانت لهم مواقف مشرفة من القضية الفلسطينية، فساعد ثورتها ودعمها مادياً وأدبياً في شتى المحافل، كما لا ينس له الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة وقفته الكريمة بمساعدة أُسر الشهداء مادياً وتكفله بمنحهم رواتب بصورة منتظمة طيلة بقائه في سدة الحكم. ولا ينس له اللاجئون الفلسطينيون المقيمون في العراق معاملته الحسنة لهم، والتي ساوى فيها بينهم وبين المواطنين العراقيين. إذن وبعد سقوطه، واحتلال البلد وتولي حكومات عراقية مدعومة من قِبل المحتل، كان على هذه الحكومات أن تجتث كل من كان يؤيد الزعيم الراحل حتى أثناء منامه. هذه الحكومات أوعزت لحرافيشها ورعاعها بأن يحوُّلوا إقامة هؤلاء اللاجئين في العراق إلى جحيم، لكي يضطروا لمغادرتها، فلجأوا إلى أعمال العنف ضدهم إما بالاختطاف والترهيب أو بالقتل. مما حدا بهؤلاء المساكين المغلوبين على أمرهم للفرار إلى الحدود العراقية – الأردنية حيناً أو الحدود العراقية – السورية أحياناً كثيرة، والعيش في مخيمات متواضعة كالوليد والنتف. ولم يكن بوسع حرافيش الحكومات الأمريكية عفواً أقصد العراقية في بغداد أن تتذكر لهم المآسي التي عانوها على مدار أكثر من ستين عاماً من التهجير والتشريد بعيدين عن ديارهم. إن ما يكابده هؤلاء اللاجئون في العراق يصب في التحليل الأخير، لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكلٍ نهائي وإغلاق هذا الملف برمته، تمهيداً لصيغة الحل النهائي للقضية الفلسطينية المتوقعة بين حينٍ وآخر. وبما أن الطرف الإسرائيلي يرفض مسألة إعادة اللاجئين إلى ديارهم التي شُردوا منها عام 1948م، وبما أن الطرف المفاوض الفلسطيني هو الحلقة الأضعف، وليس بوسعه فرض أي حل لهذه المسألة، بصرف النظر عن المصطلحات التي يستخدمها المفاوض الفلسطيني من إمكانية الوصول إلى حل خلاّق وحل عادل ... الخ. وبما إنه لن يكون مفوّضاً من طرف هؤلاء اللاجئين للتنازل عن حقوقهم. إذن ما السبيل لحل هذه المسألة ؟ في الأصل وهو ما يجب إتباعه، هو ألاَّ تفاوض في هذه المسألة، بل يجب تنفيذها حرفياً كما ورد في القرار الدولي 194، ولا يجب بحالٍ من الأحوال تفسير نصوص هذا القرار حسب أهواء الأطراف المفاوضة. فالقرار صريح ولا يحتاج إلى تأويل؛ إذ ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي أُجلوا عنها مع تعويضهم. وليس كما يُشاع عودتهم أو تعويضهم، بل الاثنين معاً. ولاحظ عزيزي القارئ بتمعن موقف الدول العربية من هؤلاء اللاجئين التعساء وموقف دول أجنبية قدّمت خدماتها لحل أزمتهم الإنسانية. والواقع إن يَرَاعي حزين وهو يكتب هكذا كلمات سوف يسجلها التاريخ على أمةٍ يُفترض أنها خير أمةٍ أُخرجت للناس. غير أنها للأسف الشديد تأبى بفعل تصرفات وحمق أهلها الذين فقدوا كل ذرة من ذرات الكرامة والمروءة (إلاَّ من رحم ربي) تحت نِعال سيدهم الأمريكي والإسرائيلي، إلاَّ أن تكون أتعس أمة موجودة في التاريخ العالمي المعاصر؛ إذ لا يُعقل أن يكون محمد بن عبد الله سيد البشرية عليه الصلاة والسلام شفيعاً لآفات طفيلية عديمة الجدوى، مهنتها الوحيدة والتي لا تجيد غيرها سوى بيع نفوسها في أسواق النخاسة بثمنٍ بخس. ومهما يكن من أمر، لاحظ عزيزي القارئ كيف ترفض الدول العربية ما عدا سوريا والسودان استقبال هؤلاء اللاجئين تحت مبررات واهية كالمبرر الأمني أو المبرر الاقتصادي. ولنكن صريحين أكثر، إن رفض العرب لاستقبال هؤلاء اللاجئين يعني أن قضيتهم لم تُحل بعد، وأن وجود اللاجئين على أراضيها يعني استمرار المشكلة. إذن لا بد من إخراج هؤلاء بالكلية من الأرض العربية لكي يتسنى للزمن أن يُنسيهم اسم فلسطين وإفراغه من ذاكرتهم. ومن هنا كان الموقف الإنساني، الذي تبنته البرازيل منذ شهور عدة باستقبال جزء من هؤلاء اللاجئين. وهنا يبدأ تنفيذ المخطط الدولي والمعد بحبكة لا فكاك منها، هذا المخطط المبني على أن يرفض العرب استقبال هؤلاء المذبوحين حتى الوريد، تحت مبررات غير مقنعة، فتتقدم بعض البلدان الأجنبية تحت ضغطٍ أمريكي لتقديم المعونة لهم باستقبالهم على أراضيها تحت مسمى حمايتهم من الأخطار التي يتعرضون لها. والعرب يتفرجون وموافقون دون أن ينبسوا ببنت شفة، فالمسألة أضحت ظاهرة كقرص الشمس. والسلطة الفلسطينية لم نرها تعترض رسمياً، ولم تطلب من مواطنيها اللاجئين في العراق عدم الذهاب إلى أقاصي الكرة الأرضية، بل لم تطلب عقد اجتماع للجامعة العربية ولا المؤتمر الإسلامي، ولا الأمم المتحدة تطلب من خلال هذا الاجتماع منع العراقيين من التعرض لهؤلاء اللاجئين بأي أذى؛ مما يعني أنها لا تعارض خطوة تهجيرهم إلى منافي جديدة، بل تباركها في الخفاء. والمعلوم للجميع أن فكرة الهجرة إلى بلدانٍ أجنبية مع تقديم كافة وسائل الحياة للمهاجرين، تجعل الأخيرين لا يفكرون فيما بعد بالعودة إلى أوطانهم، وهذا الأمر نلمسه بالفعل على أرض الواقع؛ إذ قلّما عاد مهاجرٌ إلى موطنهِ، إلاَّ إذا فشل تماماً في الحصول على عملٍ في بلد المهجر. أما الفلسطيني الذي قاسى الأمرين، ولديه القدرة على التكيف مع كل سبل الحياة، فلا غرو من انه لن يفشل، لأن الفشل لا يعرف طريق اثنين في العالم العربي: اللبناني والفلسطيني. بل والأدهى ما طالعتنا به وكالات الأنباء عن نية دول كأيسلندا والسويد قبول جماعات جديدة من هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين. نحن على أية حال نشكر لهذه الدول مروءتها ولُطفها الإنساني على بني جلدتنا، غير أن الأمر ليس إنسانياً بالمطلق، فهو يحمل في طياته مخططاً جهنمياً لتوزيع اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في الدول العربية على البلدان الأجنبية البكر التي بحاجة لزيادة سكانية؛ وبذا تكون مسألة حق العودة قد حُلّت دون أن تتكلف إسرائيل دفع أي شيء من فاتورة أمنها، ولكي تحافظ على نقاء يهودية دولتها إلى ما شاء الله، وذلك بموافقة ومباركة عربية. صدقوني، إن الوضع جد خطير، ولا يحتمل أي تأخير في إيجاد حلول لمسالة اللاجئين الفلسطينيين في العراق؛ فإذا لم يحاول العرب عامةً والسلطة الفلسطينية خاصةً، إقناع حكومات العراق المكلفة من قِبل المحتل، بتوفير نوع من الحماية لهؤلاء اللاجئين. وإذا بقي العرب يصمون آذانهم عن استيعاب هؤلاء الرهط، فإن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في المنطقة العربية خاصة في العراق ولبنان، سوف يكون حلّها عن طريق دمج هؤلاء اللاجئين في مجتمعات أجنبية؛ وبذلك نكون قد منحنا إسرائيل حلاً مجانياً لمسالةٍ قد أرّقت مضاجعها لردحٍ طويلٍ من الزمن.